الواشي’ في تونس : بين الحماية القانونية والاتّهامات’

المُبلٍغ هو الشخص الذي يبلغ الراي العام أو أي شخص في السلطة عن أنشطة غير نزيهة أو غير قانونية تحدث في إحدى الدوائر الحكومية أو شركات خاصة أو منظمات و هو ما يعبّر عنه في تونس ب‘القوّاد‘ او ‘الصّبّاب‘ و في بلد ما بعد ثورة الحرية و الكرامة الجميع يتحدث عن الفساد والفاسدين عن القضايا والملفات و التجاوزات و عن المحاسبة و المساءلة.. و بدأ مفهوم التبليغ عن الانتهاكات بالظهور على ارض الواقع نذكر في هذا السياق قضية ضابط الشرطة سمير الفرياني الذي وجهت له تهمة الاعتداء على أمن الدولة الخارجي ونشر معلومات من شأنها زعزعة الأمن العام ونسبة أمور غير حقيقية إلى شخص عمومي,و ذلك على خلفية نشره رسالتين اشار فيهما الى تجاوزات مرتكبة من بينها عملية اعدام جزء من الذاكرة الجماعية الامنية للشعب كما اتهم بعض المسؤولين الامنيين المرتشين والموالين لنظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي بالضلوع في التعذيب الجماعي بحق اسلامييين وأشار إلى المتورطين في إعطاء أوامر قتل المتظاهرين أيام الثورة في ولاية القصرين.ليواجه بذلك عقوبة الإيقاف عن العمل

ومن القضايا التي أثارت ضجة لدى الاعلام و الرأي العام في تونس ما عرف بقضية الشيراتون غايت وتبعتها قضية المليار, حيث وجدت المدونة الفة للرياحي نفسها متهمة بسبعة تهم،وجّهتها لها النيابة العمومية كنشر النميمة والإساءة الى الغيرعبر الشبكة العمومية للاتصالات وإذاعة مضامين مكاتيب هي لغيرها دون ترخيص من صاحبها الأصلي ونسبة أمور غير حقيقية لموظف دون الإدلاء بما يفيد ذلك وإحالة معطيات شخصية بغاية الاضرار بالمعني بالأمر وتحقيق فائدة أو منفعة لنفسها أو لغيرها ونشر أخبار زائفة من شأنهاتعكير صفو النظام العام

إذن في الوقت الذي تعلن فيه بعض الدول -في اطار خطة مكافحة الفساد- تقديمها مكافآت مالية وعينية لحث جميع المواطنين على التعاون معها، وأداء دورهم في التبليغ عن قضايا الفساد و تسن تشريعات تحمي الشهود والمبلغين ,يجد المبلّغ في تونس نفسه ماثلا امام القضاء لا كشاهد بل كمتهم يواجه تهم خطيرة تهدد حريته ..حماية المبلّغين واجب الحكومة التي رفعت شعارات عدّة منها محاربة الفساد.المواطن التونسي اليوم في حاجة الى دعم قانوني يحميه في هذه الحالات و القضايا التي كان بالامس القريب يخشى الحديث عنها لذلك فإننا لن نعثر على تشريعات تُعنى بهذه القضايا قبل نوفمبر 2011 اذ أصدر المشرع التونسي في الفترة الانتقالية الاولى بعد ثورة 14 جانفي, مرسوما اطاريا عدد 120 لسنة 2011 مؤرخ في 14 نوفمبر 2011 يتعلق بمكافحة الفساد.هذا المرسوم تطرّق الى مفهوم الفساد لأول مرّة في تاريخ تونس و الآليات المزمع إعتمادها لمكافحته و خاصة إرجاع الإعتبار لدور المواطن و المجتمع المدني في القيام بالدور الرئيسي بالتبليغ لنجد الفصل 11 الذي يتطرّق الى عمليات التبليغ كالآتي : ” تضمن الدولة في إطار سياستها لمكافحة الفساد التشجيع على التبليغ عن حالات الفساد بنشر الوعي الاجتماعي بخطره والتقليص من العراقيل القانونية والعملية التي تمنع كشفه وإثباته و إقرار تدابير لحماية الضحايا والشهود والمبلغين. ” هذا الفصل يُلزم الدولة على ضمان تسهيل إجراءات التبليغ في مرحلة أولى و إيجاد التدابير اللازمة لحماية المبلغ في مرحلة ثانية ليكون بذلك ضمان حماية و محاكمة عادلة لألفة الرياحي و كل من يهمه الكشف عن ملابسات حالات الفساد اداري كان او مالي
جدير بالذكر ايضا ان تونس صادقت بصفة صورية خلال سنة 2008 على اتفاقية الأمم المتحدة لمقاومة الفساد و التي تنصّ في المــادة(33)المتعلقة بحماية المبلّغين على ان تنظر كل دولة طرف في ان تُدخل في صلب نظامها القانوني الداخلي تدابير مناسبة لتوفير الحماية من اي معاملة لا مسوّغ لها لاي شخص يقوم، بحسن نيّة ولاسباب وجيهة، بابلاغ السلطات المختصة باي وقائع تتعلق بافعال مجرّمة وفقا لهذه الاتفاقية

ان مختلف المراحل التي عرفتها تونس في مجال مكافح الجريمة و الفساد بتفعيل دور المواطن في مرحلة أولى ثم المجتمع المدني في مرحلة ثانية عرف ثلاثة مراحل هامة. فانطلاقة العمل القانوني العام للوشاية أو التبليغ كان مع الحماية الفرنسية بموجب الأمر العلي الصادر في تاريخ 9 جويلية 1942 و ذلك بتجريم عدم إعلام السلطة بالجريمة و الهدف منه كان لوضع أعين تراقب جميع تحركات الحركة الوطنية التونسية
ثم بعد الإستقلال، إنطلقت ظاهرة “الصبّة” التي عرفت أوجها في عهد بن علي ببروز ظاهرة البوليس السياسي العصا الفعلية للسلطة و الوسيلة الفعالة لإضطهاد جميع الحريات الفردية و الجماعية و كما تم وضع قيد الفصل 248 من المجلة الجزائية على واجب التبليغ عن الجريمة بسجن كل من ثبت أن وشايته لا أساس لها من الصحة و هو ما أثر على دور المواطن و المجتمع المدني الذي لم يعد له القدرة والشجاعة اللازمة للتدخل لمكافحة الفساد
و أخيرا و بعد ثورة 14 جانفي 2011، و نظرا للفساد الذي عرفته أجهزة الدولة و ظهور خفايا المافيا الإدارية التي ما فتكت و هي تقوم على إفساد أمن البلاد و حسن سير دواليبها فكان من الظروري وضع إطار قانوني يحدد مفهوم الفساد و الآليات المزمع إعتمادها لمكافحته و خاصة إرجاع الإعتبار لدور المواطن و المجتمع المدني في القيام بالدور الرئيسي بالتبليغ و قد تدعم هذا التوجه صلب الفصل 11 من المرسوم الاطاري عدد 120 لسنة 2011 المؤرخ في 14 نوفمبر 2011 المتعلق بمكافحة الفساد. و لعله من الضروري أمام هذا التوجه وضع حد لمضمون الفصل 248 من المجلة الجزائية الذي كان أهم عائق للقيام بهذا الواجب الهام و الضروري لضمان الشفافية و حياد الإدارة و مكافحة الفساد
و كما تجدر الإشارة أن مسودة الدستور في فصلها 131 قد نصت على إنشاء هيئة الحكومة الرشيدة و مكافحة الفساد و التي نتمنى أن تتمتع بالإستقلالية التامة و بالآليات القانونية لرصد و مكافحة الفساد و ضمان شفافية و علنية قراراتها و كمجتمع مدني فإننا نساند إقتراح النائب الأزهر الشملي الذي إقترح التنصيص على حق المجتمع المدني في مراقبة السجون وفي مكافحة الفساد والرشوة والمحسوبية

إن أي حكومة جادة في التعامل مع هذه القضايا الحسّاسة كان عليها أن تسارع إلى الحلول قبل وقوع المشكل وأن تتفادى الأزمات حتى لا يفسّر تقاعسها على أنّه انحياز لطرف ضدّ آخر في المشاكل التي تمثّل منطلقا لأزمة الفساد. بينما لاتزال الحكومات المتواترة على تونس تلتزم الصمت و تتقاعس عن اتخاذ اجراءات رادعة للتصدي لهذه الظاهرة و تفعيل دور الهيئة العليا لمقاومة الفساد التي وقع استحداثها في المرسوم 120 كهيكل مستقل لمقاومة الفساد والوقاية منه وتخصيص اطار قضائي مشهود له بالكفاءة والنزاهة يعنى بملفات الفساد ويبت فيها بمنأى عن الاطار القضائي العادي الذي لازال يعاني من تغلغل الفاسدين وعبثهم فيه

لا بد لاجهزة الدولة المختلفة ان تتصدى لكل مظاهر الفساد وتخصيص خط ساخن لتلقى الشكاوى الخاصة به وأيضا يجب ان تصدر وزارة الداخلية تعليمات لجميع الاقسام بالتعامل بجدية مع هذه القضايا، و يتم التحقيق في البلاغات الصادرة من المُبلّغين كما وجب محاسبة كل من ثبت تورطهم.هذا فضلا على نشر تقارير هياكل الرقابة على نطاق واسع تطبيقا لحق الولوج للمعلومة مع تمكين المختصين ووسائل الإعلام من التعليق عليها وذلك لكسب ثقة المواطنين التي هي أساس نجاح كل البرامج حول مكافحة الفساد و تدعيم مبدأ الشفافية و الحكومة المفتوحة.كما يجدر بأصحاب القرارالبدء باجراءات لمعالجة كل النقائص مع وضع آليات ترتيبية وتشريعية وهيكلية كفيلة بتحقيق ذلك

19445

Posted on April 1, 2013, in Corruption and tagged , , , . Bookmark the permalink. Leave a comment.

Leave a comment